المفوهون! بقلم الكاتبة الصحفية : روعة الدندن /سورية
روعة محسن الدندن/سورية
يعلق الدكتور أحمد برقاوي على إعلام الإستبداد بالقول في مجلة النقاد :"إعلام الدولة المستبدة إعلام إخفاء،تزييف،تخريف،اقتصاد منهار وإعلام نمو،جريمة متفشية وإعلام أمل،تعليم متدن وإعلام نهضة رفاه ووفرة،استسلام وخنوع وإعلام عقلانية وواقعية ،سياسة تابعة وإعلام حرية"
هذه الظاهرة التي أطلق عليها الكاتب ممدوح عدوان(المفوهين) فقد اعتبرها ظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية ودينية لأن من أشد الأمور عذابا بالنسبة للكاتب هو أن تضطر للجلوس ساعات ،وربما لأقل من ساعة ،ولكنك تحس بها أطول من ساعات وأيام ،وأنت تستمع إلى هؤلاء المفوهين ،ويقصد الخطباء الذين نراهم ونسمعهم وهم (يحيون) المناسبات المتنوعة ،إعلامية أم سياسية ،أم اجتماعية ،قد تكون المناسبة تأبيناً حتى لفقيد عزيز عليك، وقد تكون حفلة تكريمية أو حفلة عرس لمن يهمك أن تحتفل به أو تكرمه ،وقد تكون مناسبة وطنية أنت مهتم بها فعلاً....تظل مصيبتك في الحالات كلها هي في هؤلاء المفوهين الذين احترفوا وقفة المنابر ،واحترفوا معها حرفة أن يتحدثوا مطولاً ولا يقولوا شيئا....
إنهم محترفون بلا عواطف ،لا يحزنون ولا يفرحوا ،ولا يغضبون ولا يتحمسون،يشبهون منظمين" العراضات"الإحتفالية ،ومنظمين حفلات الأعراس او الطهور أو النجاح، ويشبهون أيضا في كلامهم وسلوكهم وتعبيراتهم عناصر مكتب دفن الموتى ،يعرفون كيف يرددون عبارات التعزية ،ويقدمون القهوة المرة ،ويحفظون الأدعية والآيات القرآنية التي يجب أن تُتلى ويقومون بذلك كله بحرفيه مغسولة من أي حس إنساني
لا يختلف أي من هؤلاء عن الخطباء السياسيين وغير السياسيين الذين احترفوا الخطابات في المناسبات الوطنية والسياسية وغير السياسية إذ يكررون الكلام ذاته حتى يجعلوا المستمع ينفر من الحفل أو المناسبة وحتى من الحدث الوطني ذاته،أو المناسبة غير الوطنية ذاتها الإحتفالية أو التكريمية.
والمفوهون هم كل الذين يلفظون الكلام ولا يقولونه ومن ثم فهم أيضا رجال الدين في المناسبات الإجتماعية وخطباء المساجد الذين يكررون كلاما قيل قبلهم ملايين المرات ،ولكنهم هنا سلحوا أنفسهم نهائياً وعدوا الحفظ قيمة فهم يرددون أدعية محفوظة وتسابيح معروفة
يوحون بها أنهم يقدمون خطابهم،وهم بهذا يختلفون عن المقرئين المأجورين الذين يقرون أنهم لا يقدمون من أنفسهم إلا الصوت ،ولكنهم يحاولون أن يجعلوا لهذا الصوت قيمة فنية من خلال كونه قيمة دينية
إنهم الخطباء الذين لا يهمهم أن يسمعهم الجمهور ،وهم الكتّاب الذين لا يهمهم أن يقرأهم القراء، ترى على وجوه هؤلاء جميعا ،وفي كلامهم ذلك الحياد السلبي الذي تراه في وجوه عارضات الأزياء مهما كانت أجسادهن أو ملابسهن جميلة.
والمثير للإهتمام هو أن هؤلاء المفوهين لا يجهلون انعدام تأثير كلامهم هم يعرفون أنهم يقولون كلاما مجترا أو محفوظا بلا معنى وبلا مشاعر ويعرفون أنهم ولاسيما في الحفل السياسي ،ينافقون ،والجمهور يعرف لا أحد يخفي عن الآخر شيئا ،والمحاسبة هي درجة اتقان التفاهة المفرغة بإتقان والتي لا تقول شيئا
فالخطيب في هذه الحالة هو لا رأي له، ولا عاطفة ،وهو معني فقط بقوله مايُرضي المناسبة والقيمين عليها ،وما" يلائم" المقام ،فهو لا يذهب لكي يقول رأيا بل يذهب لكي يقول "مايجب أن يقال"
وبعض المستمعين والمشاركين يتواطؤون معه،كل منهم يصفق للخطيب ،وكأن الكلام مفاجئ ،أو كأنه يسمعه لأول مرة ،وكذلك كل خطيب يعرف أنه يقول ( مايجب أن يقال) فقط لا غير ،وكل منهم يستعد لأن يفعل ذلك ،ويقول مايجب أن يقال لو أتيحت له الفرصة
والمفوه لا يهمه أن يقف أحيانا ساعات وراء مفوه آخر من دون أن يفعل شيئا ،أو من دون أن يكون مطلوبا منه أن يفعل شيئا ،إنه لا يراقب القاعة أو الجمهور أو الخطيب ،هو جزء من الخطيب ومن القاعة في آن وهو أيضا لا شيء، وهو يعرف أنه لا شيء وقد قبل أن يكون هذا ال "لا شيء"
وحين يقبل أن يكون كذلك يعرف كيف يجد مفخرته في أنه كذلك ،ومن ثم فهو يطلب من الآخريين أن يكونوا كذلك حين يأتي دوره لكي يكون الخطيب ليصبح الواقفون بالدور بعده ،هم أيضا ،لا أشياء
فالحالة التي تقوم على إلغاء عقل المتكلم تسلم سلفا بإلغاء عقل المستمع والحالة التي تقوم على إلغاء عقل الكاتب تسلم سلفا بإلغاء عقل القارئ ووسط هذه الحالة الإجترارية الإدمانية غير المفهومة تماما تستغرب كيف لا يوجد بين أصحاب القرار ( من الدولة الراعية للإحتفال أو الإعلام إلى أصحاب العرس أو المأتم ) من يقول : لا ضرورة لإضاعة الوقت وتكرار هذا الكلام الببغائي ،ثم يأتي الإعلام و"يغطي" المناسبة ،وبما أنه إعلام السلطة والمفوهون رجالها فإن الحدث الأهم لهذا الإعلام هو كلمات خطباء الحفل وليس حتى المناسبة ذاتها في كثير من الأحيان ،فتصدر الصفحات المعبأة بذلك الكلام المجتر ،مع تقديم وتنويه وتكريم وربما تعليق أكثر اجترارا( ولنا أن نذكر أكثر من مناسبة تم تكريم أطراف معينة ثقافية أو أدبية أو علمية ،ثم نشرت الصحف في اليوم التالي كلمات المسؤولين وخطاباتهم وأغفلت أسماء المكرمين)
وماذا يهم المحرر إذا قُرئت الصحيفة أم لم تقرأ ،المهم أن يرى المفوهون صورهم وكلامهم منشورا فيرتاحون ،ومن راحتهم يستمد المحرر راحته وهم يرتاحون لانهم يتخيلون أن من هم أعلى منهم سيرون هذا الكلام ولن يقرؤون ،وهم يعرفون ذلك ،ويرتاحون فيرتاح الجميع
ولكن لا أحد يفكر في القارئ أو المواطن
من كتاب ( حيونة الإنسان " الحاشية" ) للكاتب ممدوح عدوان
تعليقات
إرسال تعليق